
ثلاث صدمات هزت العالم
Feb 01, 2023
ثلاث صدمات هزت العالم
بعد الاضطرابات التي شهدها عام 2022 أصبح الركود العالمي حتمياً، السؤال هو ماذا بعد؟ تقول زاني مينتون بيدوز
كتب بواسطة
زاني مينتون بيدوز، رئيس التحرير، الإيكونوميست
كتب بواسطة
زاني مينتون بيدوز، رئيس التحرير، الإيكونوميست
Feb 01, 2023
فقد أعلن محررو قاموس كولينز الإنجليزي أن «الأزمات الأزلية» أو «permacrisis» هو ما يعبر عن عام 2022، والواقع أن هذه الفترة، التي تعرف بأنها «فترة ممتدة من عدم الاستقرار وانعدام الأمن»، تعد بمثابة بوابة قبيحة تلخص عالم اليوم بدقة مع بزوغ فجر عام 2023، فقد أدى غزو فلاديمير بوتن لأوكرانيا إلى اندلاع أكبر حرب برية في أوروبا منذ عام 1945، وهي الحرب الأكثر خطورة لما قد يحدث من تصعيدات واستخدام النووي وذلك منذ أزمة الصواريخ الكوبية ونظام العقوبات الذي طال تداعياته منذ ثلاثينيات القرن العشرين. وأدى ارتفاع تكاليف الغذاء والطاقة إلى تغذية أعلى معدلات التضخم منذ ثمانينيات القرن العشرين في العديد من البلدان، فضلا عن التحدي الأكبر الذي يواجه الاقتصاد الكلي في العصر الحديث المتمثل في البنوك المركزي، وتزعزعت الافتراضات التي استمرت لعقود بأن الحدود يجب أن تكون غير قابلة للانتهاك، وأن الأسلحة النووية لن تستخدم، والتضخم سيكون منخفضاً وأن البلدان الغنية ستظل مضاءة.
تضافرت ثلاث صدمات لإحداث هذا الاضطراب وأكبرهم متمثل في العوامل الجيوسياسية ويواجه النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الحرب تحدياً واضحاً من بوتن، كما يواجه تحديا عميقا يتلخص في العلاقة المتفاقمة بين أميركا والصين تحت زعامة شي جين بينج، إن العزيمة التي أبدتها كل من أميركا والدول الأوروبية في الرد على العدوان الروسي ربما كانت سببا في إحياء فكرة «الغرب» وبصورة خاصة التحالف عبر الأطلنطي، ولكنه أدى إلى توسيع الفجوة بين الغرب وبقية العالم، وإن غالبية الناس في العالم يعيشون في بلدان لا تؤيد العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، ويرفض السيد شي علنا القيم العالمية التي يقوم عليها النظام الغربي، وأصبح الفصل الاقتصادي بين أكبر اقتصادين في العالم حقيقة واقعة، فلم يعد الغزو الصيني لتايوان أمراً غير محتمل. كما تظهر الشقوق في حقائق جيوسياسية مؤكدة أخرى طويلة الأمد، مثل تحالف المصلحة بين أميركا والمملكة العربية السعودية.
وقد أدت الحرب في أوكرانيا بدورها إلى أكبر صدمة على مستوى السلع الأساسية منذ سبعينيات القرن العشرين وإلى إعادة تشكيل نظام الطاقة العالمي بسرعة بالغة، وكانت أهمية أوكرانيا كدولة مصدرة للزراعة تعني أن الحرب تهدد بالجوع الجماعي في العالم، إلى أن تم العثور على وسيلة لفتح ميناء أوديسا، وحتى في الوقت الحالي كانت العواقب الأكثر مباشرة المترتبة على صراع بعيد بالنسبة للعديد من البلدان تتلخص في الغذاء والأسمدة، فقد كشف استعداد بوتين لاستخدام الغاز كسلاح اعتماد أوروبا المزمن على الهيدروكربونات الروسية، وجعل صناعتها التي تعتمد بكثافة على الطاقة غير قابلة للحياة بين عشية وضحاها، وأجبرت الحكومات على إنفاق المليارات من أجل حماية المستهلكين، وأدت إلى تدافع مجنون من أجل الحصول على مصادر إمداد بالطاقة جديدة. وكل هذا يأتي في عام أصبحت فيه عواقب تغير المناخ -المتمثلة في الفيضانات في باكستان إلى موجات الحر في أوروبا- ظاهرة تتزايد بعنف، ودفع ارتفاع تكاليف الطاقة الذي وصل عنان السماءحتى أكثر الساسة الأوروبيين رحمة بالبيئة إلى إعادة تشغيل محطات الفحم المتوقفة من جديد، فقد ظهر تباين صارخ بين الرغبة في ضمان وصول إمدادات الطاقة إلى مستويات معقولة وآمنة ومستدامة بيئيا.
من ارتفاع البروتينات إلى ارتفاع الأسعار
كما أدى ارتفاع أسعار الطاقة بدوره إلى تفاقم الصدمة الثالثة آلا وهي فقدان استقرار الاقتصاد الكلي، وبدأت أسعار المستهلك تتسارع بالفعل في أوائل عام 2022، حيث لبى الطلب الذي تغذى على التحفيز القيود المفروضة على العرض في مرحلة ما بعد الوباء، ولكن مع ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء ارتفاعًا صارخًا تحول التضخم من الارتفاع الظاهري المؤقت إلى مشكلة مستمرة مزدوجة الرقم، وبقيادة بنك الاحتياطي الفيدرالي الذي اكتشف بنك فولكر الداخلي متأخرا تبنت البنوك المركزية الكبرى في العالم أسرع وأوسع مجموعة من الزيادات في أسعار الفائدة العالمية في أربعة عقود من الزمان على الأقل، ومع اقتراب عام 2022 من تحقيق استقرار وثيق في الاقتصاد الكلي، لا يزال التضخم العالمي قريبا من رقمين، كما أن المقارنات مع سبعينيات القرن العشرين متشابهه وهذا مريح.
ماذا يحدث بعد ذلك؟ كل ذلك يعتمد على كيفية تطور هذه الصدمات الثلاث: الجيوسياسية والطاقة والاقتصاد، وكيف تؤثر على بعضها البعض، على مستوى الأمد القريب فالإجابة قاتمة، وستعاني أجزاء كبيرة من العالم من الركود في عام 2023، وقد يؤدي الضعف الاقتصادي في أماكن عديدة إلى تفاقم المخاطر الجيوسياسية، وهذه التركيبة السامة ستكون أكثر وضوحاً في أوروبا، وعلى الرغم من فصل الخريف المعتدل وما نتج عنه من انخفاض في أسعار الطاقة، فإن القارة تواجه شتاء عصيباً في الفترة 2022-23 والفترة 2023-24، والواقع أن العديد من الاقتصادات الأوروبية أصبحت بالفعل على حافة الركود، وستستنزف أسعار الفائدة الأعلى المطلوبة للحد من التضخم الإنفاق الاستهلاكي وزيادة البطالة.
إن أي تباطؤ مفاجئ في الأسعار من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار الغاز ارتفاعًا شاهقًا، وبالتالي رفع احتمالات انقطاع التيار الكهربائي، حتى الآن كانت الحكومات الأوروبية حريصة على حماية المستهلكين من أسوأ صدمات أسعار الطاقة بالاستعانة بإعانات دعم ضخمة وأغطية للأسعار، ولا يمكن أن يستمر ذلك إلى الأبد وأصبحت بريطانيا في أسوأ حالاتها وذلك يعزى إلى الضرر الدائم الناجم عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والأضرار المفروضة ذاتيا التي أحدثتها خطة ليز تروس لفرض تخفيضات ضريبية هائلة غير ممولة، ومن أجل إعادة بناء ثقة السوق بعد انعدام مسؤولية رئيس حكومتها، فسيكون لزاماً على بريطانيا أن تتبنى أكبر قدر من منهاجيات إحكام القيود المالية في مجموعة الدول السبع الكبرى، حتى في حين تعاني أشد حالات الركود، وإيطاليا الدولة المتقاعسة منذ أمد بعيد عن أوروبا التي تنافسها بريطانيا الآن، تشكل مصدرا للقلق والانزعاج أيضا.
والخطر الجيوسياسي الأكبر هنا هو أن بوتن العاجز عن النجاح في ساحة المعركة يحاول جاهدًا استغلال نقاط الضعف الأوروبية، وهذه الاستراتيجية واضحة بالفعل في أوكرانيا، حيث تضاعف روسيا جهودها في محاولة تدمير البنية الأساسية للطاقة في البلاد مع اقتراب فصل الشتاء، وحتى الآن فشلت محاولات بوتين لكسر تضامن دعم أوكرانيا في أوروبا الغربية من خلال استخدام الغاز كسلاح، ولكنه قد يلجأ إلى طرق أخرى، من خلال قطع كل (وليس بعض) صادرات الغاز أو تخريب خطوط أنابيب الغاز في أوروبا، وهذا التصعيد من شأنه أن يسفر عن قدر أقل من الازدراء من جانب بقية العالم مقارنة باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية، ولكن هذا يعني أن الأمور تزداد سوءا في أوروبا.
وستكون الصين المكان الثاني حيث قد يؤدي الضعف الاقتصادي إلى تفاقم المخاطر الجيوسياسية في العام المقبل، وسيدخل اقتصادها عام 2023 ضعيفا بسبب مجموعة من الأخطاء السياسية المحلية، ولا سيما تصميم السيد شي على الالتزام باستراتيجيته التي تقضي بعدم انتشار فيروس كورونا، والفشل في التعامل مع أزمة كبيرة ومتلألئة في الممتلكات. وفي الوقت نفسه، ألغى السيد شي خطابه العدواني والوطني، لا سيما بشأن تايوان ففي مؤتمر الحزب الذي دام خمسة أعوام في أكتوبر الذي أضفى الطابع الرسمي على تركيزه المطلق للسلطة، حذر السيد شي من «العواصف الخطيرة» في المستقبل وأشار إلى «الاستفزازات الجسيمة» التي تنطوي على «تدخل خارجي» في تايوان، فهو لا يملك أي تكنوقراط اقتصاديين متمرسين حول ولائه على كفاءته، وإذا تفاقمت المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها الصين في عام 2023، فإن الهتاف بشأن تايوان قد يكون بمثابة تشتيت مغري.
سيصبح الاقتصاد الأميركي عام 2023 أقوى من حيث الجوهر من اقتصاد الصين أو أي اقتصاد آخر في أوروبا، وستؤدي الزيادات الهائلة في معدل الاحتياطي الفيدرالي إلى دفع الاقتصاد إلى الركود، ولكن مع استمرار سوق العمل في القوة ونمو مدخرات الأسر، فسيكون ذلك معتدلا. وعلى الرغم من أن ارتفاع أسعار البنزين قد عزز من ارتفاع التضخم وأضر بإدارة بايدن، إلا أن البلد منتج كبير للطاقة، وبالتالي فقد استفادت من صدمات السلع الأساسية لهذا العام، ومن عجيب المفارقات هنا أن القوة الاقتصادية النسبية التي تتمتع بها أميركا في عام 2023 قد تشكل مشكلة بالنسبة لبقية العالم أكثر من مجرد مشكلة ضعف أميركا، ويحتاج بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى زيادة أسعار الفائدة لفترة أطول لقمع التضخم، وذلك من شأنه أن يعزز من قوة الدولار ويلزم البنوك المركزية الأخرى بالمواصلة، وعلى الصعيد الداخلي يكمن الخطر في انقسام الحكومة والتراجع الاقتصادي سيعني التصلب التشريعي، مما سيؤدي إلى سياسة الأكثر سمية من المعتاد في واشنطن. وفي هذه البيئة، قد يتلاشى الدعم المقدم لمساعدة أوكرانيا وتزداد جاذبية التشدد بشأن تايوان؛ فالأول سيشجع بوتين والثاني سيغضب شي.
باختصار، تتوفر العديد من الأسباب التي قد تجعل عام 2023 عاماً قاتماً وخطيراً ولكن لأن كل أزمة تولد احتمالات جديدة، فهناك بعض الأنباء السارة وسط الاضطرابات الحالية، وستزدهر بعض البلدان وسط هذه الكآبة فاقتصادات الخليج تزدهر، على سبيل المثال، ولا تستفيد فقط من ارتفاع أسعار الطاقة بل أيضا من دورها المتنامي كشركات استغاثة مالية. وستكون الهند، التي ستتفوق على الصين لتصبح الدولة الأكثر سكاناً في العالم في عام 2023، نقطة مضيئة أخرى، بدعم من النفط الروسي المخفض، والاستثمار المحلي المتنامي، واهتمام الأجانب المتزايد الحريصين على تنويع سلاسل إمداداتهم بعيدا عن الصين. وفي عموم الأمر، سيكون أداء الاقتصادات الناشئة أفضل نسبيا من حالها في النوبات السابقة من ارتفاع أسعار الفائدة والركود العالمي.
سيؤدي هذا التغيير إلى بعض التشكيك في العقيدة ومع وضع التضخم تدريجيا وبشكل مؤلم تحت السيطرة، فإن محافظي البنوك المركزية سيتساءلون إلى أي مدى ينبغي لهم أن يدفعوا قوتهم، ومن المرجح أن يقترب عدد قليل منهم من تحقيق هدف التضخم بنسبة 2٪، وستدور مناقشة صاخبة على نحو متزايد حول ما إذا كان هذا هو الهدف الصحيح حقا.
أوكرانيا تمثل الجانب المشرقة لمسألة المناخ
ومن ناحية أخرى، ستعزز صدمة الطاقة التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة، فقد وصفها فاتح بيرول، رئيس وكالة الطاقة الدولية، بأنها «نقطة تحول في تاريخ الطاقة» من شأنها أن «تعجل الانتقال نحو الطاقة النظيفة»، وفي الوقت نفسه ستشجع الأزمة أيضاً على التحلي بقدر أكبر من الواقعية بشأن الدور الجاري للوقود الأحفوري، ولا سيما دور الغاز الطبيعي كجسر لنقل الوقود إلى مستقبل أكثر اخضراراً. ومن حسن الحظ فالرياء الذي طال أمده سيكشف في النهاية مثل عدم رغبة أوروبا في تمويل مشاريع الغاز في البلدان الفقيرة، حتى في حين تسعى جاهدة لتأمين المزيد من إمدادات الغاز لنفسها ونتيجة لذلك يصبح نظام الطاقة العالمي أكثر اخضراراً وتنوعًا وأمنًا.
والواقع أن العواقب الجيوسياسية الطويلة الأجل المترتبة على الصدمات التي حدثت في عام 2022 هي الأصعب على الإطلاق في التنبؤ بها، وأيا كان ما يحدث في أوكرانيا، فمن الواضح أن بوتين سيفشل في هدفه الاستراتيجي المتمثل في إنكار حق البلاد في الوجود. بل إن أوكرانيا ستصبح بدلا من ذلك دولة ذات توجهات غربية وجيشها هو الأكبر والأكثر قوة في أوروبا حتى لو كانت خارج منظمة حلف شمال الأطلنطي، فإن هذا من شأنه أن يغير حسابات الأمن الأوروبي. وينبغي لنجاح أوكرانيا أن يمنح المعتدين المحتملين الآخرين الفرصة للتفكير ومع ذلك فإن رفض معظم الاقتصادات الناشئة الانضمام إلى نظام العقوبات الذي فرضه الغرب على روسيا يشير إلى أن النداء الأوسع نطاقا المتمثل في الدفاع عن الحريات الديمقراطية والحق في تقرير المصير محدود، ومع بداية عام 2023 نجد أن نظام ما بعد الحرب لم يمت — لكنه تحول.